الولاء الوطني
ثمة إجماع على أنّ الأوراق الثبوتية للمواطنة ليست سوى صورة للانتماء الحقيقي وشكل من أشكال الولاء المطلق والكامل للوطن النابع من الإيمان الذي يغمر القلب بالوطن ومن الإخلاص في القول والعمل الذي يخدم مصالحه العليا، فالولاء الوطني الحق لا يثبت بالادعاء ولا بمجرد الإقامة، ولا هو بكثرة النياشين والأوسمة التي تُمنح باسم الوطن لمن لا يخلص له الولاء.
الولاء الوطني من القيم الثابتة التي تزداد وضوحاَ وحضوراَ عندما يُستهدف الوطن ويتربّص به الأعداء، وهو المحك الأكثر دقةً لتقييم الولاء الوطني واختبار مصداقية أدعيائه، حيث ترى شديدي الولاء للوطن يتقاطرون من أماكنهم المختلفة والمتباعدة عند كل نجدة ومع كل استغاثة لتقديم أغلى ما يملكون فداءً للوطن الغالي، ولسان حالهم يقول:
بحثت عن هبةٍ أحبوك يا وطني
فلم أجد لك إلا قلبي الدامي.
وأكثر هؤلاء في الغالب هم من بسطاء الناس وعامتهم، نقول ذلك لأن الواقع يؤكد أن هؤلاء هم الأكثر حضوراَ وبقاءً في مواطن الشدة والنوازل لتقديم أرواحهم دفاعاً عن الوطن الغالي:
يجودُ بالنفس إن ضَنَّ الجوادُ بها والجودُ بالنفس أقصى غايةِ الجودِ
إنّ الولاء الوطني من القيم الثابتة التي لا تتغير بتغيّر الأزمنة أو الأنظمة أو الحكام أو الأحوال أو غير ذلك، فالولاء الوطني لا يرتبط بأيٍ مما سبق لأنه (مبدأ شريف لا ينسجم مع التبعية بأي حالٍ من الأحوال أياً كان شكلها أو نوعها).
فالولاء ـ الذي هو الحب والموالاة والدفاع والنصرة وربط المصير بالمصير ـ هو للوطن من أجل سلامته وأمنه واستقراره. إذ أن الوطن عند الوطنيين ذوي الولاء الخالص والمطلق أغلى من نفوسهم، ترى في توحدهم ـ لأجل الوطن آيةً، وفي ثباتهم معجزةً، وتفانيهم أسطورة، وفي موالهم الوطني خلاصة العلاقة المتبادلة:
إنني منه على الدهر ولن أترك الكعبة أحمي إبلي.
ثلةٌ من الأولين وثلةُ من الآخرين كأنهم بنيانٌ مرصوص، لم تثنهم اللأواء ولم تعيقهم الصعاب، لا السجون ولا الجراح، لا الفاقة ولا الإعاقة:
من السجون ارتضعنا غضبة البركان
ومن صدى القيد صغنا أروع الألحان
وبالسلاح وثبنا وثبة الطوفان
ندك أعتى قلاع الظلم والطغيان
ونبتني من جديد مجد ماضينا
ولهذا فهؤلاء هم أحق الناس بالوطن، والوطن كذلك، لأن "التراب إذا سقيته ماءً صار طيناً وإذا سقيته دماً صار وطناً".
على الرغم من واحدية مكونات البقاع والأصقاع إلا أنّ لمسقط الرأس ونُزُل النشأة مكانةً خاصةً في وجدان ومشاعر المخلصين لأوطانهم، ولهذا عندما خرج الرسول الكريم من مكة المكرمة مضطراً للهجرة إلى المدينة التفت إلى مكة ليلقي النظرة الأخيرة والعبارة المؤثرة: (أنتِ أحب بلاد الله إليّ)، وهكذا تتسع دائرة الحب الفياض والمشاعر الصادقة اتساع دائرة الوطن.
يتجسّد الولاء الوطني في ذلك الجسم النحيف والوجه الشاحب لمن يحمل عدته رابضاً في موقعه قد آلى على نفسه ألا يعود إلا بإحدى الحسنيين، وفي جريح مواجهة مع أعداء الوطن يسارع في تضميد جراحه ليعود إلى مواقع الشرف والبطولة، وهو كذلك في وصية شهيد في لحظاته الأخيرة إلى زملائه ورفاق دربه أن (اثبتوا.. فوالله أننا على حقٍ وهم على باطل) وفيها الأثر البالغ على معنويات الجنود وشحذ هممهم.. كما أنه في تردّد مقاتل بين الجبهة وأماكن العمل، حيث يرابط لفترة ويذهب للعمل بالأجر اليومي لفترة أخرى لتوفير قوت أسرته كون المرتبات لما تنتظم بعد منذ إعادة تشكيل الجيش الوطني.
الكرامة أغلى ما تملك الشعوب، والدفاع عنها أسمى غاية الأحرار. كم هو عظيمٌ أن يسهر ويتعب ذوو الولاء الوطني الخالص لينام ويرتاح غيرهم، ويعرّضون أنفسهم للمخاطر من أجل سلامة شعوبهم.
يتلقّى البعض العديد من مضامين الولاء للوطن ومفاهيم التجرّد لأجله، فيظل يكررها ويذكّر الآخرين بها، فإذا نُدب لترجمة أقواله إلى أفعال اثّاقل إلى الأرض وخارت قواه وتغيّرت ملامحه، وفي هذا بيانٌ وتأكيد على أن الولاء الوطني الخالص نابعٌ من عمق المشاعر والوجدان. يُفترض أن يكون الولاء الوطني بمثابة (المادة الحافظة) التي تضمن صلاحية الشخص، وبزوالها يكون فاقدها قد انتهت فترة صلاحيته، ومن ثمّ فإنّ استخدامه على مصالح الناس فيه خطورة بالغة.
المعركة بين فئة شديدة الولاء للوطن وأخرى مخلصة العمالة للأجنبي، وبين هذه وتلك من ضل الطريق، ابتعد عن الانقلاب لكنه لم يقترب من الشرعية، قعدوا في منازلهم إلا أن لهم وزر القائمين على الانقلاب.